منذ إبرام اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، ساد انطباع لدى كثيرين بأنّ الهدنة في القطاع لن تكون ثابتة، وإنما مؤقتة، باعتبار أنّ إسرائيل لم تحقّق أهدافها المُعلَنة من الحرب التي شنّتها بعيد عملية "طوفان الأقصى"، وهو ما تعزّز بالمشهديّة التي أصرّت حركة حماس على إرسالها من خلال عمليات تبادل الأسرى والرهائن، التي حوّلتها إلى مهرجانات واستعراضات لم تخلُ من المظاهر المسلحة، للقول إنّها لا تزال صامدة وقوية، بصورة أو بأخرى.
لكن ما لم يكن يتوقّعًا، هو أن "ينقلب" رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على اتفاق وقف إطلاق النار بين ليلةٍ وضحاها، وفي ذروة المفاوضات القائمة إن صحّ التعبير، فيقرّر "الغدر" بالفلسطينيّين والوسطاء، فيختار الثانية فجرًا موعدًا لاستئناف الحرب من دون أيّ مقدّمات، فيقتل في ليلة واحد، نحو أربعمئة فلسطيني كانوا يعتقدون أنّهم في أمان ولو "نسبيّ"، وهم الذين اعتقدوا أنهم نجوا من "الإبادة"، ولو أنّهم يواجهون حرب "تجويع" موازية.
ثمّة من يضع خطوة نتنياهو "الغادرة"، والتي أكد المسؤولون الإسرائيليون أنّها جاءت بالتنسيق مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بل بغطاء وضوء أخضر من إدارته، في خانة محاولة استعادة زمام المبادرة في الداخل الإسرائيلي، بعد تراجع أسهمه في الآونة الأخيرة، بدليل أنّ الخطوة نجحت في تظهير "وحدة الموقف"، مع استعادة حكومته لتوازنها، وعودة الوزير المتطرف المستقل إيتمار بن غفير إلى صفوفها مرّة أخرى.
وإذا كانت "جولة الجنون" الجديدة في غزة، تتمّ بظروف مختلفة عن جولة "طوفان الأقصى"، ومن دون جبهات إسناد تُذكَر، باستثناء الجبهة اليمنية التي تعرّضت لمحاولة حصار هي الأخرى في الأيام الأخيرة، فإنّ علامات استفهام عدّة تُطرَح حول تبعاتها على المنطقة ككلّ، بما في ذلك لبنان، فما الذي يمنع "إسقاط" سيناريو غزة على لبنان، علمًا أنّ نتنياهو يكرّر دومًا أنّ الاتفاق الذي أبرم كان على وقف إطلاق النار، وليس على إنهاء الحرب؟!.
على مستوى الوضع في غزة، يتحدّث العارفون عن جملة من الأسباب التي تدفع نتنياهو إلى العودة للخيار العسكري، بعد شهرين فقط على اتفاق وقف إطلاق النار، من بينها محاولته ترميم الجبهة الداخلية التي تعرّضت لبعض الاهتزازات في الأسابيع الأخيرة، وبينها إصراره على أنّه سيمضي في المعركة حتى النهاية، والنهاية بالنسبة إليه لن تكون أقلّ من "القضاء على حركة حماس"، وصولاً إلى "اليوم التالي" الذي يرسمه مع الأميركيين للقطاع.
في هذا السياق، يرى العارفون أنّ "التخبّط" الذي أصاب المفاوضات في المرحلة الأخيرة لم يكن في صالح نتنياهو، خصوصًا أنّه أظهر "مرونة" لدى حركة حماس، بعيدًا عن مبدأ "الخضوع وقبول الشروط"، وهو ما من شأنه "إحراج" الجانب الإسرائيلي، الذي يحاول منذ انتهاء الحرب الترويج لسرديّة "نهاية حماس"، فإذا بها تؤكد صمودها رغم كلّ شيء، وهو ما بدأته بالرسائل التي تعمّدت توجيهها على هامش احتفالات تسليم الأسرى، والتي كانت تستفزّ الإسرائيليّين.
وإذا كان نتنياهو يسعى من العودة إلى الحرب، إلى تكريس منطق "التفاوض تحت النار"، وهو مبدأ لطالما تمسّك الإسرائيليون به، وبالتالي يحاول القول إنه يمضي بالحرب حتى الوصول إلى اتفاق، ويرفض أيّ مماطلة أو مراوغة من هذا الجانب أو ذاك، فإنّ هناك من لا يستبعد في المقابل، أن يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب لعب دورًا "محرّضًا" إن صحّ التعبير، وهو الذي هدّد أكثر من مرّة بـ"الجحيم" إذا لم يتمّ تسليم "جميع" الرهائن.
ويقول البعض إنّه بقدر ما تشكّل العودة إلى الحرب "محاولة ضغط" من الجانب الإسرائيلي على حركة حماس، من أجل القبول بالشروط الإسرائيلية في المفاوضات، فإنّها تشكّل أيضًا "محاولة ضغط" من جانب الرئيس الأميركي، على الفلسطينيين، ومعهم العرب، من أجل القبول بـ"خطة التهجير" التي كان قد كشف النقاب عنها أخيرًا، والتي اصطدمت بموقف عربي موحّد على الرفض، في مفارقة تكاد تكون "نادرة" الحدوث.
عمومًا، إذا كانت ظروف الحرب المستأنَفة على غزة لا تزال غير واضحة، بانتظار أن يتكشّف ما إذا كانت مجرّد محاولة ضغط تريد تل أبيب توظيفها في المفاوضات، أم أنها ستكون مفتوحة لتحقيق الأهداف غير المُنجَزة بعد، فإنّ الأسئلة بدأت تُطرَح حول تبعاتها على المنطقة عمومًا، وتحديدًا على لبنان، الذي نال "نصيبه" من حرب "طوفان الأقصى"، فهل من جبهة إسناد يمكن أن تُفتَح هذه المرّة، وهل من مخطط إسرائيلي لاستئناف الحرب على لبنان؟!.
بالنسبة إلى الشقّ الأول من السؤال، يقول العارفون إنّ الأمر "مُستبعَد"، فـ"حزب الله" ليس في وضعٍ يسمح له الآن بفتح جبهة إسناد، كما فعل في الثامن من تشرين الأول 2023، بعد يوم واحد من عملية "طوفان الأقصى"، علمًا أنّه في المرة الأولى كان في أوج قوته، كما أنه كان يعتقد أنه قادر على "ضبط" المواجهة، فلا يكون الإسناد سببًا في الذهاب إلى حرب لم يكن يريدها، وكان يظنّ أنّ الإسرائيلي أيضًا يهابها ولا يريدها.
أما اليوم، فإنّ الحزب مُنهَك، بعد خسائر قاسية مني بها، على رأسها اغتيال أمينه العام السابق وقائده التاريخي السيد حسن نصر الله، وهو يعتقد أنّه "أدّى واجبه للعلا" تجاه القضية الفلسطينية، فضلاً عن كونه غيّر "تكتيكاته" في هذه المرحلة، وهو الذي اعتمد خطاب "الصبر والركون للدولة"، حتى في التعامل مع الخروقات الإسرائيلية اليومية لاتفاق وقف إطلاق النار، من باب عدم رغبته بتقديم أي "ذريعة" لإسرائيل للعودة إلى الحرب.
مع ذلك، ثمّة من يخشى من "سيناريو" تعود فيه إسرائيل للحرب في لبنان، من دون مقدّمات، كما فعلت في غزة، إلا أنّ العارفين يعتقدون أنّ مثل هذا "السيناريو" لا يزال بعيدًا، أقلّه حتى الآن، باعتبار أنّ مثل هذه الحرب لن تكون في صالح إسرائيل، بحيث ستجبر "حزب الله" على المواجهة ولو بالحدّ الأدنى، في حين أنّ ما تحقّقه اليوم في زمن السلم قد يكون أهمّ، وهي التي تحتفظ بحرية حركة، تشنّ الغارات ليلاً ونهارًا، من دون حسيب أو رقيب.
في النهاية، لا أحد يستطيع أن يضمن ما يمكن أن تفعله إسرائيل، في غزة وفي لبنان وفي أيّ بقعة أخرى، فكما غدرت بالفلسطينيين النيام فجرًا، في مرحلة الهدنة، فقتلتهم من دون سابق إنذار، يمكن أن تكرّر الأمر في أيّ مكان. إلا أنّ الأكيد أنّ سيناريوهات ما بعد السابع من تشرين الأول 2023، لا تستقيم بعد الثامن عشر من آذار 2024، فالمنطقة كلّها تغيّرت، وليس لبنان فحسب، وهنا بيت القصيد!.